مصر التى نعيش فيها (مصران) الأولى للأغنياء والمترفين وعددهم لا يزيد على مائة أسرة ولا يشكون من عوز أو حاجة أو بطالة دائمًا، إذا كان لزامًا أن يشكوا فمن أمراض المرفهين التى يسهل السيطرة عليها، فالأموال مُتوفرة بالملايين.. ولأن كل شىء بات يُباع ويشترى فى أرض المحروسة، فأحلام سكانها تتحقق، ومطالبهم يُستجاب لها، والمواقع العليا والمُربحة فى كل الوزارات والفروع تكون من نصيبهم.
أما مصر الثانية فهى مصر الفقراء والـمُعدمين وعددهم بالملايين وهم عاجزون عن كل شىء، وأصبحت الأحلام فى شريعتهم عصية بل حرامًا ينهى بعضهم بعضًا عن اقترافها.. والأسرة فيها مُثقلة بالهموم والديون رغم أن بطون أفرادها خاوية (جوعًا) وأجسادهم فريسة للأمراض الفتاكة (مثل السرطان والكبد الوبائى والفشل الكلوى)..
نعم مصرنا لم تعد كتلة صمّاء، ولا يمكن اعتبارها جسدًا واحدًا إذا اشتكى منه عضو يتداعى له باقى الأعضاء بالحمى والسهر.. وإنما أصبحت (جنة) فيحاء لمجموعة من العائلات والانتهازيين والمتسلقين الذين ينعمون بكل شىء.. فوظائفهم محجوزة فى وزارة الخارجية (مستشارون ووزراء مفوضون وسفراء).. وفى جامعة الدول العربية يترأسون القطاعات والفروع ويحصلون على الامتيازات من كل لون وحجم ولا يهم إن كانوا على علم أو قدر من أدب.
وكم أود هنا أن نرسم معًا شجرة الوظائف فى هاتين المؤسستين.. لكى نكتشف العجب العُجاب، فأبناء وأحفاد كبار رجال الدولة يحتلون فيهما المقاعد الوثيرة، ويتقاضون الرواتب بالدولار والإسترلينى، ويركبون العربات الفارهة، وينعمون بالشقق الفاخرة فى أحياء القاهرة الراقية، وبالشاليهات الرومانسية على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر.. ومنهم من تمتد ملكيته للعقارات فى باريس ولندن ودبى والكويت!!
ولم تجد هذه الـ (مصر) حرجًا من أن يشغل ثلاثة أخوة مواقع دبلوماسية فى سفارات مصر فى الخارج.. بعدما كان الأب سفيرًا فى عاصمة آسيوية كبرى.
.. وستكون الفضيحة أعمق وأكثر إيلامًا إذا رسمنا شجرة الوظائف فى الجامعة العربية التى تكتب سيدة (دبلوماسية) فيها كلمة التيار الإسلامى بحرف (الطاء) وتُطلق على اليهود اسم (اليهوديين!) وتعتقد أن (مطوبس) فى محافظة المنوفية، و(كفر البدماص) فى الدقهلية نكتة مُقززة يقشعر منها بدنها النحيل..
هذه السيدة أمضت عشرين عامًا فى مكتب جامعة الدول العربية فى باريس وكانت تظن - ولا تزال - أنها مخلوقة من طينة أخرى غير طينة البشر العاديين. وعندما رسب ابنها فى الجامعة الأمريكية واصل دراسته (مُستمعًا) ولا يحق له أن يدّعى أنه يحمل شهادة من الجامعة الأمريكية.. لكن لأن هذه السيدة ومن على شاكلتها تعتقد أن الرفاهية لم تخلق لغيرها.. فلقد تقدمت بأوراق غير صحيحة إلى التليفزيون لكى يشغل ابنها الوحيد موقع مُخرج! فى أحد البرامج مع أنه لا يحمل أى شهادة علمية..
أما نظراؤه فى مصر (الفقراء فيحملون شهادات من أكاديمية الفنون ولا يجدون عملاً لا لشىء إلا لأنهم ينحدرون من مصر (الأخرى) فلا حق لهم فى حياة.. أو حلم أو عمل.)
يشكو فقراء مصر من أغنيائها الذين صادروا مصر لحسابهم وحساب أولادهم، وباتوا يشعرون أنه لا مكان لهم فى أى مكان.. حتى الدويقة والعشوائيات طُردوا منها وأصبحوا يعيشون حياتهم مثل اللقطاء أو المنبوذين.. كانوا قديمًا يقولون لا كرامة لنبى فى وطنه، لكن الثابت عملاً أنه لا كرامة لمصرى فقير فى وطنه «فمعدمو» الدخل كُثر، والمهمشون فى مصر المحروسة أكثر وأكثر، وقلوب الفقراء ملأى بالحزن والحقد، وتتأوه فى صمت، لكن هذه التأوهات قد تتحول إلى زفرات ولهيب حارق، لتصبح حممًا تحرق الأخضر واليابس (وإن غدًا لناظره قريب!).
لقد بات راسخًا أن نحو مائة أسرة قد خطفت مصر لحسابها، فهم فى المؤسسات السيادية والبوليس والخارجية والجامعة العربية والبنوك العربية والأفريقية أما أبناء الفقراء فهم متنطعون على الأرصفة وضحايا للجماعات الإرهابية وأدعياء الدين والسلوك القويم.
وبات هؤلاء يشعرون بأن مصر لم تعد بلدهم، فكل ما فيها لخدمة المائة أسرة وكفى!
وعندما جأر بالشكوى (يومًا) الشاعر الكبير فاروق جويدة لم يكن يصف غير الحقيقة عندما فضح الامتيازات المجتمعية والوظيفية التى أصبحت حكرًا على نفر من السعداء وذوى النفوذ والحظوة.. أما فقراء مصر ومعدموها، فلهم الموت جوعًا أو ظلمًا لا فرق.. ارسموا معى شجرة الوظائف التى شغلها عليـــة القوم وأولادهم لتكتشفوا أننا فى دولة لا يحكمها غير قانون (الغاب) فالرغد والرفاهية للأقوى والأغنى والأطول ذراعًا، أما الذل والهوان والموت الزؤام فهو من نصيب دود الأرض، أقصد فقراء هذا البلد الذين يخافون يومًا يموتون فيه فلا يجدون مكانًا يوارون فيه أجسادهم وقد تحولت جثثًا وهم أحياء!!
مصر الفقراء تتسع دوائرها، وتمدد أذرعها يمينًا ويسارًا بينما مصر الأغنياء تتقوقع على ذاتها، وتتدثر بالثروات التى تحصل عليها (ارتضاء أو اغتصابًا) ولسكانها وحدهم طيب الحياة، ولين العيش، أما الفقراء الذين يشبهون فى زحفهم (الديدان!) فقلوبهم حزينة ولا أمل يدغدغ مشاعرهم المستنفرة (ضيقًا وتبرمًا).. وأخشى ما نخشاه أن تتحول إلى جلمود صخر يهبط على رؤوس الأغنياء المترفة فتجعلها تتساوى بالأرض والطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ممكن تقدروا تشاركوا معانا و تقولوا لنا رأيكو فى موضوعاتنا