أولاً: إذا قيل أن فلاناً عظيم.. فهل تدري كيف يُسأل عنه؟يُسأل الأمريكي: كم تبلغ ثروته؟يُسأل البريطاني: ما هي مؤهلاته العلمية؟ويُسأل الياباني: ماذا عن خبرته؟أتدري عما يُسأل العربي: من أبوه !!!!؟
لا بأس.. فنحن العرب عرقيين بطبعنا، نعتز بجذورنا، بل راح البعض منا يتشدق بحضارة الفراعنة، وتراه وهو جالس على المقهى يشد الشيشة، وينظر للأهرام بفخر ويقول في نفسه: إنها حضارتنا، حضارة الفراعنة.. مع أنه بلا عمل منذ تخرجه ولم يشارك في الحضارة من قريب أو من بعيد، بل لم يكنس حتى بقايا البصل والفسيخ بعد أن أكل بجوار أبي الهول.
ثانياً: قرأت دراسة بحثية لطيفة أجريت على الجواسيس الذين خانوا أوطانهم، وكنت أظن أنهم قبلوا مبدأ الخيانة لقاء أموال طائلة، ولكن تبين من الدراسة أن أي من هؤلاء الخونة لم يتقاضي أكثر مما متوسطه عشرة آلاف دولار، وهو مبلغ لا يكفي لزحزحة العقيدة..لأن الخيانة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة.. حتى وإن كان الخائن إفراز بيئة فقيرة وفي أشد الدول فقراً، بل يمكن للغالبية تدبير هذا المبلغ وربما أكثر منه ببعض الكدح والاجتهاد، وتأمل أي فقير حولك واسأله: كم يرضيك لتخون بلدك؟ فيجيبك: ولا كنوز الدنيا.
ولكن هناك من قبل الخيانة بالفعل، وهنا أثبتت الدراسات النفسية أن القاسم المشترك بين هؤلاء الضحايا.. وأعني أنهم ضحايا.. أنهم فقدوا الانتماء تجاه أوطانهم.
وأود تذكير القارئ بالفارق المعنوي بين لفظي "الولاء" و"الانتماء"، فقد جاء في مختار الصحاح أن (الوَلاَء) هو القرابة، النصرة، التتابع.. وهنا يتضح لي أن ولائي لمصر هو محصلة لميراث الهوية، وما سبقني وتبعني من أوراق ثبوتية. إلى هنا لا قيمة أو دلالة (لولائك) سوى أنك "رقم" لبطاقة ضمن السجلات.
أما الانتماء، فهو القيمة الحقيقية في العلاقة مع الوطن، ويعني الانتماء الميل العاطفي والوجداني للوطن، وحتى على المستوى اللفظي، انتماء، تنامي، نمو، سمو، علو.. وتوصلك هذه المترادفات إلى ذات الوصف الذي تتغلغل به الجذور بالأرض، وتتسلق به الأغصان حول نخلة، إذن فهو الحب حتى الاحتواء.
ودعوني أدلّل على صحة حديثي بالفنانين غير المصريين، فبالرغم من أن ولائهم (أي تبعاتهم) لجنسيات غير مصرية، إلا أن انتماء بعضهم تعاظم حتى دفن نفسه إبان حياته في مصر، بل وأوصى بدفن بدنه بعد مماته في مصر مثل فريد الأطرش والنابلسي وفايزه أحمد وغيرهم.
هذا هو الفرق بين الانتماء والولاء... فكلنا مصريون بالولاء، ولكن هيهات أن يكون الانتماء من نصيب الجميع.
ثالثاَ: غُربة الأوطان.. كنت أظن أن الغربة هي أن تبتعد عمن تحب، نعم، فقد كانت تجربة السفر لمدة عام بدون أُسرتي للمرة الأولى تجربة قاسية، ولم أشأ أن تستمر تلك التجربة المريرة فحسمت أمري وعُدت لأبقي مع أسرتي.
ولأني كنت بحاجة للسفر مرة أخرى لتدبير مواردي، فقد قررت ألا أغادر بدون أسرتي، وسافرنا سوياً، ومرت أسابيع وانتابني ذات الشعور المرير بالغربة. كنت في السابق أفكر في زوجتي وابني، وبينما هما بصحبتي، ها أنا أفكر في شوارع القاهرة، خان الخليلي، منيل الروضة، المقهى الذي اعتدت الجلوس اليه مع رفقائي، ميدان التحرير، مكتبة مدبولي، الشاي والجاتوه في جروبي... يا إلهي.. لا أزال أسرح في أرجاء الوطن وأعيش ذكرياتي وأنا يقظ، وقبل النوم.
وعُدت أتأمل أحوالي لأكتشف أن الغربة ليست غربة الأهل، بل غربة الأوطان،قد ينتابك نفس الإحساس بالغربة وأنت في وطنك، غربة الوطن، وهو إحساس ينتاب أولئك الذين فقدوا حنان الوطن من فرط المعاناة وصعوبة العيش، فأصبحوا أغراباً في بيوتهم. أنه إحساس أشد ضراوة من الغربة خارج الوطن.
رابعاً: جاء في بريدي الالكتروني رسالة مصورة تحكي قصة شاب فلسطيني خائن تم إطلاق الرصاص عليه، وكانت الرسالة في سلسلة صور متتابعة لا تحرك لديك الدهشة، فهي القصاص لخيانة الوطن، ولكن جاءت الصورة الأخيرة لتكمل المعني، فقد كانت صورة أُم هذا الشاب الخائن وقد حضرت مشهد القصاص وكانت اللقطة الختامية وهي تدوس بقدمها رأس ابنها بعد إعدامه وتبصق عليه. هذه هي الأمومة، فالابن الأغلى دائما هو الوطن، وتُدرك هذا المغزى عندما يناديك من حولك في الغربة: يا ابن النيل والآن عزيزي القارئ .. هل أدركت ما أصبو إليه؟ نعم هو كذلك.
د.بهي الدين مرسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ممكن تقدروا تشاركوا معانا و تقولوا لنا رأيكو فى موضوعاتنا