قراءة غير بريئة للتغيير فى مصر
لا نستطيع أن نغفل القراءات الإسرائيلية للوضع فى العالم العربى، خصوصا ما صدر منها عن مسئولين كبار يتربعون على رأس المؤسسة الأمنية. هذه قراءة أحدهم لاحتمالات الوضع فى مصر.
(1)
يستحى المرء أن يذكر أن أحد أسباب الاهتمام بما يقوله هؤلاء، رغم ما نكنه لهم من بغض، إنهم فى بعض الأحيان يعرفون عنا أكثر مما نعرف نحن، الأمر الذى يدفعهم إلى الإدلاء بمعلومات تعد عندنا من الأسرار المحجوبة عن الرأى العام، فضلا عن أن ما يقولونه يفصح عن بعض ما يخططون لنا ويدبرون. وحين يأتى ذلك على لسان مسئولين فى أهم مؤسسة بالدولة، فإنه يكتسب أهمية خاصة، تسوغ أن يؤخذ الكلام على محمل الجد، لأنه يصبح معبرا عن معلومات ومواقف الدولة، ولا ينبغى أن يستقبل بحسبانه آراء أو اجتهادات شخصية.
أتحدث عن محاضرة ألقاها فى معهد أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى آفى ديختر حين كان وزيرا للأمن الداخلى، وتحدث فيها بإسهاب عن رؤية إسرائيل للأوضاع فى المنطقة، بتركيز خاص على سبع دول من بينها مصر والسودان، ومعها فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران.
المحاضرة ألقيت يوم الخميس الرابع من شهر سبتمبر الماضى، قبل العدوان على غزة، وقبل انتخاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما، وحين كان إيهود أولمرت رئيسا للحكومة الإسرائيلية. على المستوى الإخبارى تبدو المحاضرة قديمة نسبيا، لكنها تظل طازجة ومحتفظة بأهميتها من زاوية التحليل السياسى. فقد مرت عدة أسابيع قبل أن يتسرب نص المحاضرة التى ألقيت بالعبرية، وحين ترجمت إلى العربية فقد استغرق ذلك وقتا آخر، وعندما وقعت عليها بعد ذلك، فإننى ترددت طويلا فى نشر مضمونها، نظرا لحساسية المعلومات الواردة فيها. إلا أننى تشجعت بعد ذلك حين حلت مناسبة مرور 30 عاما على المعاهدة المصرية الإسرائيلية، وتطرقت الصحف المصرية إلى ملف العلاقات مع إسرائيل بكلام لامس الخطوط الحمراء ورفع الحرج عن بعض عناوينه، الأمر الذى ضيّق من مساحة المحظورات ووسّع من هامش المباحات.
ومن ثَم فتح الباب لاستعراض المعلومات التى تضمنتها المحاضرة. ولعلى لست بحاجة للتنبيه إلى أن هذه المعلومات لا ينبغى أن نُسلِّم بصحتها على طول الخط، ولكنها تظل قابلة للمراجعة والتصويب فضلا عن النقض بطبيعة الحال.
(2)
وهو يقدم تصوره للعلاقة مع مصر، فإن وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى حرص على القول بأن البلدين «ينعمان» بسلام شامل وعلاقات أكثر من طبيعية. وهذه الخلفية التى تعيها جيدا القيادتان السياسية والأمنية، بلورت محددات للسياسة الإسرائيلية إزاء مصر تمثلت فى ضرورة تعميق وتوطيد العلاقات مع الرئيس حسنى مبارك، والنخب الحاكمة سواء فى الحكومة أو فى الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم. مع توجيه اهتمام خاص إلى رجال السياسة ورجال الأعمال والإعلام، يقوم على المصالح المشتركة التى تحقق مصالح لجانبين. وفى هذا السياق تحتل العلاقة مع النخب الإعلامية المصرية مكانة خاصة، بالنظر لأهمية دور وسائل الإعلام فى تشكيل الرأى العام وبلورة اتجاهاته.
واستطرد السيد ريختر قائلا : إن إسرائيل وهى تسعى إلى تمتين صلاتها مع القاهرة، بحيث تقوم على مرتكزات ثابتة، فإنها شديدة الحرص على نسج علاقة خاصة مع أقوى شخصيتين فى البلد، هما اللتان ستتوليان السلطة بعد رحيل الرئيس مبارك. وهاتان الشخصيتان هما جمال مبارك نجل الرئيس المصرى، وعمر سليمان رئيس المخابرات العامة، الذى أصبح له حضوره الواسع داخل مصر وخارجها. وأشار فى هذا الصدد إلى أن من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع الراهن، ومواجهة تطورات لا تحمد عقباها، إذا حدثت تحولات مناقضة لتقديراتها، المبنية على أن السلطة فى المستقبل سوف تنتقل من الأب إلى الابن.
من الواضح أن سيناريوهات المستقبل فى مصر كانت ومازالت أحد الموضوعات التى تدور حولها مناقشات مستمرة فى أروقة السلطة. عبر عن ذلك آفى ديختر حين قال فى محاضرته إنه منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد فى عام 1979، وأحد الأسئلة الشاغلة للعقل الإسرائيلى هو: كيف يمكن الحيلولة دون حدوث تغيير دراماتيكى فى مصر؟
فى الرد على السؤال قال إنهم حددوا سيناريوهات التغيير الدراماتيكى فى ثلاثة احتمالات:
الأول أن تتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى مصر، وتفقد الحكومة السيطرة على الموقف، مما قد يفضى إلى اضطرابات تمكِّن الإخوان المسلمين من الوصول إلى السلطة الثانى أن يحدث انقلاب عسكرى بسبب سوء الأوضاع العامة، تقوده عناصر شابة طموحة تركب الموجة وتستولى على السلطة. وهناك أسباب وجيهة تستبعد هذا الاحتمال الثالث أن يعجز خليفة مبارك، سواء كان ابنه أو رئيس المخابرات العامة عن مواجهة الأزمة الداخلية، مما قد يجر البلاد إلى الفوضى والاضطرابات. وفى هذه الحالة قد يكون الخيار الأفضل أن تجرى انتخابات عامة تحت إشراف دولى، تشارك فيها حركات أكثر أهمية من حركة «كفاية» مما يؤدى إلى ظهور خريطة جديدة للتفاعلات الداخلية.
(3)
من استعراض هذه الاحتمالات الثلاثة استطرد آفى ديختر قائلا:
إن عيون إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة مفتوحة على ما يجرى فى مصر. وهما يرصدان ويراقبان ومستعدان للتدخل من أجل كبح جماح هذه السيناريوهات، التى ستكون كارثية بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب.
من وجهة النظر الإسرائيلية فإن انسحاب مصر من اتفاقية السلام وعودتها إلى خط المواجهة مع إسرائيل يعد خطا أحمر، لا يمكن لأى حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه. وهى ستجد نفسها مرغمة على مواجهة هذا الموقف بكل الوسائل..
لأن المؤشرات الميدانية تبين أن النظام فى مصر يعانى الآن من عجز جزئى عن السيطرة على الوضع بصورة كافية، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تسهمان فى تدعيم الركائز الأساسية التى يستند إليها النظام. ومن بين هذه الركائز نشر نظام للرقابة والرصد والإنذار، قادر على تحليل الحيثيات التى يجرى جمعها وتقييمها، ووضعها تحت تصرف القيادات فى واشنطن وتل أبيب وحتى فى القاهرة.
تحرص الولايات المتحدة وإسرائيل عبر ممثلياتهما المختلفة فى مصر (السفارات والقنصليات والمراكز الأخرى)، على إسناد حملة جمال مبارك للفوز بتأييد الشارع والرأى العام المصرى ودعم أنشطته المختلفة، الاجتماعية والثقافية، ليكون أكثر قبولا من والده فى نظر المصريين.
من قبيل تحصيل الحاصل، القول بأن لدى الولايات المتحدة وإسرائيل إستراتيجية استباقية لمواجهة أى متغيرات فى مصر. ذلك أن واشنطن بعدما وطأت أقدامها مصر بعد رحيل الرئيس عبدالناصر وتولى السادات زمام السلطة، أدركت أنه لابد من إقامة مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية، على غرار ما فعلته فى تركيا منذ الحرب العالمية الثانية.
وانطلاقا من ثقتها بهذه الركائز وقدرتها على لجم أية مفاجآت غير سارة، فإن واشنطن تبدو أقل قلقا وانزعاجا منا إزاء مستقبل الأوضاع فى مصر.
الثقة الأمريكية تعتمد على عدة عوامل منها ما يلى: إقامة شراكة مع القوى والفعاليات المؤثرة والمالكة لمختلف عناصر القوة والنفوذ، من رجال السلطة إلى رجال الأعمال والإعلام شراكة أخرى مع الأجهزة الأمنية باختلاف مستوياتها تأهيل محطات إستراتيجية داخل المدن الرئيسية التى هى مراكز صنع القرار فى مقدمتها القاهرة والإسكندرية الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز فى النقاط الحساسة بإمكانها الانتشار خلال بضع ساعات للسيطرة على مراكز عصب الحياة بالعاصمة مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية فى قواعد خاصة بها للتحرك عند اللزوم.
(4)
فى تقدير آفى ديختر أن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فى مصر تصنف على أنها من النوع غير القابل للحل. لذلك فإن كل الإجراءات والإصلاحات التى اتخذت فى عهد الرئيس مبارك لم تعالج الخلل الموجود. وهو ما أعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ثورة يوليو 1952. ذلك أن سيطرة رأس المال ورجال الأعمال على الحياة السياسية والاقتصادية أحدثت استقطابا بين الشرائح الاجتماعية، حيث أصبحت هناك أقلية لا تتجاوز 10٪ تتحكم فى السلطة والثروة، مقابل أغلبية ساحقة فى الطبقة الدنيا التى تعانى من الفقر أو تعيش تحت خط الفقر.
هذا الوضع إضافة يثير مخاوف النظام القائم، كما يثير مخاوف حلفائه وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى. ذلك أن أى متغير فى مصر من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على البيئة الإقليمية فى المنطقة بأسرها. مع ذلك من الواضح أن النظام القائم فى مصر أثبت حتى الآن كفاءة وقدرة ليس فقط على احتواء الأزمات، ولكن أيضا على التكيف مع الأوضاع المأزومة.
ورغم أن ثمة تنسيقا كافيا بين واشنطن وتل أبيب لمواجهة جميع الاحتمالات، فإن إسرائيل لها تصورها الخاص فى التعامل مع متغيرات الوضع فى مصر. إذ هى مستعدة لمواجهة أى طارئ بما فى ذلك العودة إلى «احتلال» شبه جزيرة سيناء، «إذا استشعرنا أن تلك المتغيرات من شأنها أن تحدث انقلابا فى السياسة المصرية إزاء إسرائيل. ذلك أننا حين انسحبنا من سيناء ضمنا أن تبقى رهينة». وهذا الارتهان تكفله ضمانات أمريكية من بينها السماح لإسرائيل بالعودة إليها إذا اقتضى الأمر ذلك. ثم إن هناك قوات أمريكية مرابطة فى سيناء تمتلك حرية الحركة والقدرة على المراقبة، بل ومواجهة أسوأ المواقف وعدم الانسحاب تحت أى ظرف.
تعلمنا من تجربة عام 1967 دروسا لا تُنسى، هكذا قال ديختر، فسيناء مجردة من السلاح ومحظور على الجيش المصرى الانتشار فيها. وتلك هى الضمانة الأقوى لاحتواء أى تهديد افتراضى من مصر. ولم يعد سرا أن الموافقة على إدخال 600 من أفراد الشرطة وحرس الحدود والأمن المركزى المصرى إلى سيناء للتمركز حول حدود قطاع غزة، لم تتم إلا بعد دراسة مستفيضة من جانب الطاقم الأمنى وبعد مخاض عسير داخل الحكومة الإسرائيلية. وفى كل الأحوال فإن تمسك إسرائيل بتجريد مسافة بعمق 350 كيلومترا من السلاح فى سيناء يظل ضمانا لن تتخلى عنه تحت أى ظرف.
وهو ينهى حديثه فى الشأن المصرى، قال آفى ديختر: إن القاعدة الحاكمة لموقفنا هى أن مصر خرجت (من الصف العربى) ولن تعود إلى المواجهة مع إسرائيل. وذلك موقف يحظى بالدعم القوى والعملى من جانب الولايات المتحدة.
سواء كانت هذه معلومات أو تهويمات وأمنيات، فإنها تستحق القراءة المتمعنة والتفكير الطويل من جانبنا، لكنها تتطلب ردا وتفنيدا من جانب جهات القرار المعنية فى مصر، التى أساء إليها الكلام أيما إساءة. فى الأسبوع القادم بإذن الله نستعرض الكلام الخطير الذى قيل عن بقية الدول العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ممكن تقدروا تشاركوا معانا و تقولوا لنا رأيكو فى موضوعاتنا